فصل: قال الشريف الرضي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها الملك:
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

.[سورة الملك: آية 1]:

{تبارك الّذِي بِيدِهِ الْمُلْكُ وهُو على كُلِّ شيْ ءٍ قدِيرٌ (1)}
قوله تعالى: {تبارك الّذِي بِيدِهِ الْمُلْكُ وهُو على كُلِّ شيْ ءٍ قدِيرٌ [1]} وهذه استعارة. وقد مضت لها نظائرها فيما تقدم. والمراد بذكر اليد هاهنا استيلاء الملك وتدبير الأمر. يقال: هذه الدار في يد فلان أي في ملكه. وهذا الأمر في يد فلان أي هو المدبّر له.
فمعنى بِيدِهِ الْمُلْكُ أي هو مالك الملك، ومدبّر الأمر.

.[سورة الملك: آية 4]:

{ثُمّ ارْجِعِ الْبصر كرّتيْنِ ينْقلِبْ إِليْك الْبصرُ خاسِئا وهُو حسِيرٌ (4)}.
وقوله سبحانه: {ثُمّ ارْجِعِ الْبصر كرّتيْنِ ينْقلِبْ إِليْك الْبصرُ خاسِئا وهُو حسِيرٌ} [4] وهذه من الاستعارات المشهورة. والمراد بها- واللّه أعلم- أي كرّر أيها الناظر بصرك إلى السماء مفكرا في عجائبها، ومستنبطا غوامض تركيبها، يرجع إليك بصرك بعيدا مما طلبه، ذليلا بفوت ما قدّره.
والخاسئ في قول قوم: البعيد. من قولهم: خسأت الكلب. إذا أبعدته. وفى قول قوم: هو الذليل. يقال رجل خاس أي ذليل، وقد خسى أي خضع وذلّ.
والحسير: البعير المعيى، الذي قد بلغ السير مجهوده، واعتصر عوده. فتلخيص المعنى أن البصر يرجع بعد سروحه في طلب مراده، وإبعاده في غايات مرامه، كالّا معيى، بعيدا من إدراك بغيته، خائبا من نيل طلبته.

.[سورة الملك: الآيات 7- 8]:

{إِذا أُلْقُوا فِيها سمِعُوا لها شهِيقا وهِي تفُورُ (7) تكادُ تميّزُ مِن الْغيْظِ كُلّما أُلْقِي فِيها فوْجٌ سألهُمْ خزنتُهاألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ (8)}.
وقوله سبحانه: في صفة نار جهنم نعوذ باللّه منها: {إِذا أُلْقُوا فِيها سمِعُوا لها شهِيقا وهِي تفُورُ تكادُ تميّزُ مِن الْغيْظِ} [7، 8] الآيات.
وفى هذا الكلام استعارتان. إحداهما قوله تعالى: {سمِعُوا لها شهِيقا وهِي تفُورُ} والشهيق: الصوت الخارج من الخوف عند تضايق القلب من الحزن الشديد، والكمد الطويل. وهو صوت مكروه السماع. فكأنه سبحانه وصف النار بأنّ لها أصواتا مقطعة تهول من سمعها، ويصعق من قرب منها.
والاستعارة الأخرى قوله سبحانه: {تكادُ تميّزُ مِن الْغيْظِ} من قولهم: تغيظت القدر. إذا اشتد غليانها، ثم صارت الصفة به مخصوصة بالإنسان المغضب. فكأنه سبحانه وصف النار- نعوذ باللّه منها- بصفة المغيظ الغضبان، الذي من شأنه إذا بلغ ذلك الحد أن يبالغ في الانتقام، ويتجاوز الغايات في الإيقاع والإيلام.
وقد جرت عادتهم في صفة الإنسان الشديد الغيظ بأن يقولوا: يكاد فلان يتميز غيظا.
أي تكاد أعصابه المتلاحمة تتزايل، وأخلاطه المتجاورة تتنافى وتتباعد، من شدة اهتياج غيظه، واحتدام طبعه. فأجرى سبحانه هذه الصفة- التي هي أبلغ صفات الغضبان- على نار جهنم لما وصفها بالغيظ، ليكون التمثيل في أقصى منازله، وأعلى مراتبه.

.[سورة الملك: آية 15]:

{هُو الّذِي جعل لكُمُ الْأرْض ذلُولا فامْشُوا فِي مناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وإِليْهِ النُّشُورُ (15)}.
وقوله سبحانه: {هُو الّذِي جعل لكُمُ الْأرْض ذلُولا فامْشُوا فِي مناكِبِها [15]} وهذه استعارة. لأن الذّلول من صفة الحيوان المركوب. يقال: بعير ذلول. وفرس ذلول. إذا أمكن من ظهره، وتصرّف على مراده راكبه.
وضدّ ذلك وصفهم للمركوب المانع ظهره، والممتنع على راكبه بالصّعب والمصعب.
والمعنى: أنه سبحانه جعل الأرض للناس كالمركوب الذلول، ممكنة من الاستقرار عليها، والتصرّف فيها، طائعة غير مانعة، ومذعنة غير مدافعة.
والمراد بقوله تعالى: {فامْشُوا فِي مناكِبِها} أي في ظهورها وأعاليها، وأعلى كلّ شيء منكب له.
وقال بعضهم: معنى ذلك أنه سبحانه لما أصابنا في بعض الأحيان بالرجفات والزلازل التي لا قرار معها على وجه الأرض، وخلق الجبال الخشن الملامس، الصعبة المسالك لتكون للأرض ثقلا، وللخلق معقلا، أعلمنا سبحانه أنه لو لا ما أنعم به علينا من تسكين الأرض وتوطئتها، ونفى الحزونة والوعوث عن أكثرها حتى أمكنت من التصرف على ظهرها، لما كان عليها مثبت قدم، ولا مسرح نعم. وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير.

.[سورة الملك: آية 22]:

{أفمنْ يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ أهْدى أمّنْ يمْشِي سوِيّا على صِراطٍ مُسْتقِيمٍ (22)}.
وقوله سبحانه: {أفمنْ يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ أهْدى أمّنْ يمْشِي سوِيّا على صِراطٍ مُسْتقِيمٍ [22]} وهذه استعارة، والمراد بها صفة من يخبط في الضلال، وينحرف عن طريق الرشاد. لأنهم يصفون من تلك حاله بأنه ماش على وجهه. فيقولون: فلان يمشى على وجهه، ويمضى على وجهه، إذا كان كذلك.
وإنما شبّهوه بالماشي على وجهه، لأنه لا ينتفع بمواقع بصره، إذ كان البصر في الوجه.
وإذا كان الوجه مكبوبا على الأرض كان الإنسان كالأعمى الذي لا يسلك جددا، ولا يقصد سددا.
ومن الدليل على أن قوله تعالى: {أفمنْ يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ} من الكنايات عن عمى البصر، قوله تعالى في مقابلة ذلك: {أمّنْ يمْشِي سوِيّا} لأن السّوىّ ضدّ المنقوص في خلقه، والمبتلى في بعض كرائم جسمه. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الملك:
الدنيا دار لها ما بعدها. والتدين الفاسد يستقبل هذه الحقيقة بالنواح والتشاؤم، لا بالعمل الجاد والاستعداد للخلود الدائم. إن تحديد الموقف من الآخرة لابد منه في مواجهة الحضارة المعاصرة. وهذا التحديد يفرض علينا أن ندرس الحياة وأن نعرف الحكمة من الوجود الموقوت بها. إن العقل البليد الذي لا يدرس الحياة ولا يستعد لما بعدها ليس هو العقل المؤمن. وسورة الملك تنبه إلى هذا في كلمات واعية {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}. {الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت}. {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح...}. والمحزن أن العقل الإسلامى الآن جهول بالكون، تائه عن قوانينه، ضعيف الخبرة بها والقدرة على استغلالها.. وهنا شيء آخر انضم إلى هذا العجز: شراهة في طلب الملذات والعكوف عليها مع السماع إلى أغان تقول له الدنيا ضحك ولعب وعش أيامك عش لياليك. واليوم الفائت لن يعود أبدا، فلماذا تضيعه؟ وهكذا تجمعت على المسلمين كل الهزائم المادية والروحية.. فلا عجب إذا هددوا بمصاير الكفار الذين إذا رموا في جهنم {سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء..}. {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}. المفروض أن العقل المؤمن أخبر بالحياة وأذكى في الكون من العقل الملحد، لأن الإيمان بالله يقوم في الإسلام على تأمل في الكون ووعى بآيات الله في آفاقه! إنه لشيء يثير الحزن والقلق أن نجد المسلمين في مؤخرة القافلة البشرية على النحو الذي يقول فيه الشاعر: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ** ولا يستأمرون وهم شهود!!
قد يكون الإيمان بالله من الغيوب التي يعمل فيها العقل عمله، ولكن أثر هذا الغيب في النفس أقوى من الحواس كلها لأن المرء قد يضحى بروحه استجابة لهذا الغيب، وقد يترك أشهى الملذات استجابة، لوحيه ولذلك قال الله سبحانه: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير}. ومع الإيمان بالغيب هناك سيطرة على عالم الشهادة ومهارة في تطويع فجاج الأرض لما ينشده المسلم من تمكين وسيادة {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه...} ومع الأكل من هذا الرزق فمستقبل الإنسان ليس هنا.. إنه عند الله {... وإليه النشور}. والآية الأولى في هذه السورة تشير إلى أن الله بيده الملك. وقد صرحت آيات أخرى أنه بيده الفضل، وبيده الخير، وأن الأرض جميعا قبضته، وأن السموات مطويات بيمينه. إن استمكانه من ملكه-جل شأنه- لا نظير له، ويستحيل أن يقوم له معترض! ولذلك يقول للكافرين {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا...}.
وتعبير {من في السماء} نموذج من تعابير أخرى تصف الملكوت الإلهى. فإن الله، وإن كان مستويا على عرشه فعلمه وسمعه وبصره وقيامه على كل نفس وتدبيره لكل أمر وإمساكه لكل ذرة في السموات والأرض، تجعله جل شأنه لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء ولذلك يقول: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم}. ويقول: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا}. ويقول: {وهو معكم أينما كنتم}. إن شهود الله علينا لاشك فيه. ومن التطاول البحث في كنه هذا الشهود، إننا لا نعرف كيف يحول الله اللقيمات التي نطعمها إلى عيون وآذان، فكيف نعرف كنه ذاته وقربه؟ إن الله أقرب إلينا من أنفسنا ولكنا أعجز من أن نبصر!! وحسبنا إذا علمنا ذلك أن نستنصر به ونسترزقه ونعد غيره صفرا كما بين لنا في هذه السورة {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور}.
وتتحدث السورة في آخرها عن الكافرين الذين يحاولون نقل المعركة إلى الرسول وأتباعه من المؤمنين، فيسائلهم: ما جدوى ذلك عليكم إذا كنتم أغبياء تعمون عن الواقع حتى تصطدموا به؟ هل قصور الآخرين- كما زعمتم- يشفع لكم ويسوغ ضلالكم؟ {قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين}. وتختم السورة بسؤال إلى عبيد المادة الذين ينكرون ربها المسخر لها {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين}؟ حكوا أن أحد الملاحدة سمع هذه الآية فقال: تأتينا به الفئوس والمعاول! أي أن تعميق الحفر في البئر سيخرج الماء حتما! وشاء الله أن يغيض ماء عينه فيعمى! فهل قدر أحد على رد بصره؟ نعوذ بالله من الخذلان. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة تبارك:
أقول: ظهر لي بعد الجهد: أنه لما ذكر آخر التحريم امرأتي نوح ولوط الكافرتين، وامرأة فرعون المؤمنة، افتتحت هذه السورة بقوله: {الذي خلق الموتُ والحياة} مرادا بهما الكفر والإيمان في أحد الأقوال، للإشارة إلى أن الجميع بخلقه وقدرته، ولهذا كفرت امرأتا نوح ولوط، ولم ينفعهما اتصالهما بهذين النبيين الكريمين، وآمنت امرأة فرعون، ولم يضرها اتصالها بهذا الجبار العنيد، لما سبق في كل من القضاء والقدر ووجه آخر، وهو أن تبارك متصل بقوله في آخر الطلاق: {اللهُ الذي خلق سبع سمواتٍ ومِن الأرض مثلهن} فزاد ذلك بسطا في هذه الآية: {الذي خلق سبع سماواتٍ طباقا ما ترى في خلقِ الرحمنِ مِن تفاوت فارجِع البصر هل ترى مِن فطور} إلى قوله: {ولقد زينّا السماء الدُنيا بمصابيح} وإنما فصلت بسورة التحريم لأنها كالتتمة لسورة الطلاق. اهـ.